فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون}
بين تعالى لحاق اليهود والنصارى بأهل الشرك وإن اختلفت طرق الشرك في فرق بين من يعبد الصنم وبين من يعبد المسيح وغيره، لأنّ الشرك هو أنْ يتّخذ مع الله معبودًا، بل عابد الوثن أخف كفرًا من النصراني، لأنه لا يعتقد أنّ الوثن خالق العالم، والنصراني يقول بالحلول والاتحاد، وقائل ذلك قوم من اليهود كانوا بالمدينة.
قال ابن عباس: قالها أربعة من أحبارهم: سلام بن مشكم، ونعمان بن أوفى، وشاس بن قيس، ومالك بن الصيف.
وقيل: قاله فنحاص.
وقال النقاش: لم يبق يهودي يقولها بل انقرضوا، وتذم الطائفة أو تمدح بصدور ما يناسب ذلك من بعضهم.
قيل: والدليل على أن هذا القول كان فيهم أنّ الآية تليت عليهم فما أنكروا ولا كذبوا مع تهالكهم على التكذيب، وسبب هذا القول أن اليهود قتلوا الأنبياء بعد موسى، فرفع الله عنهم التوراة ومحاها من قلوبهم، فخرج عزير وهو غلام يسيح في الأرض، فأتاه جبريل فقال له: إلى أين تذهب؟ قال: أطلب العلم، فحفظه التوراة، فأملاها عليهم عن ظهر لسانه لا يخرم حرفًا فقالوا: ما جمع الله تعالى التوراة في صدره وهو غلام إلا أنه ابنه، ونقلوا حكايات في ذلك.
وظاهر قول النصارى المسيح ابن الله نبوّة النسل كما قالت العرب في الملائكة، وكذا يقتضي قول الضحاك والطبري وغيرهما عنهم: أنّ المسيح إله، وأنه ابن الإله.
ويقال: إن بعضهم يعتقدها بنوّة حنوّ ورحمة، وهذا القول لم يظهر إلا بعد النبوّة المحمدية وظهور دلائل صدقها، وبعد أن خالطوا المسلمين وناظروهم، فرجعوا عما كانوا يعتقدونه في عيسى.
وقرأ عاصم والكسائي {عزير} منونًا على أنه عربي، وباقي السبعة بغير تنوين ممنوع الصرف للعجمة والعلمية، كعاذر وغيذار وعزرائيل، وعلى كلتا القرائتين فابن خبر.
وقال أبو عبيد: هو أعجمي خفيف فانصرف كنوح ولوط وهود.
قيل: وليس قوله بمستقيم، لأنه على أربعة أحرف وليس بمصغر، إنما هو اسم أعجمي جاء على هيئة المصغر، كسليمان جاء على هيئة عثمان وليس بمصغر.
ومن زعم أنّ التنوين حذف من عزير لالتقاء الساكنين كقراءة: {قل هو الله أحد الله الصمد} وقول الشاعر:
إذا غطيف السلمى فرّا

أو لأنّ ابنًا صفة لعزير وقع بين علمين فحذف تنوينه، والخبر محذوف أي: إلا هنا ومعبودنا.
فقوله متمحل، لأنّ الذي أنكر عليهم إنما هو نسبة البنوّة إلى الله تعالى.
ومعنى بأفواههم: أنه قول لا يعضده برهان، فما هو إلا لفظ فارغ يفوهون به كالألفاظ المهملة التي هي أجراس ونغم لا تدل على معان، وذلك أن القول الدال على معنى لفظة مقول بالفم ومعناه مؤثر في القلب، وما لا معنى له يقال بالفم لا غير.
وقيل: معنى بأفواهم إلزامهم المقالة والتأكيد، كما قال: {يكتبون الكتاب بأيديهم} {ولا طائر يطير بجناحيه} ولابد من حذف مضاف في قوله: {يضاهون} أي يضاهي قولهم والذين كفروا قدماؤهم فهو كفر قديم فيهم أو المشركون القائلون الملائكة بنات الله، وهو قول الضحاك.
أو الضمير عائد على النصارى والذين كفروا اليهود أي: يضاهي قول النصارى في دعواهم بنوّة عيسى قول اليهود في دعواهم بنوّة عزير، واليهود أقدم من النصارى، وهو قول قتادة.
وقرأ عاصم وابن مصرف: {يضاهئون} بالهمز، وباقي السبعة بغير همز.
قاتلهم الله أنى يؤفكون: دعاء عليهم عام لأنواع الشر، ومن قاتله الله فهو المقتول.
وقال ابن عباس: معناه لعنهم الله.
وقال ابان بن تغلب:
قاتلها الله تلحاني وقد علمت ** إني لنفسي إفسادي وإصلاحي

وقال قتادة: قتلهم، وذكر ابن الأنباري عاداهم.
وقال النقاش: أصل قاتل الدعاء، ثم كثر استعمالهم حتى قالوه على جهة التعجب في الخير والشر، وهم لا يريدون الدعاء.
وأنشد الأصمعي:
يا قاتل الله ليلى كيف تعجبني ** وأخبر الناس أني لا أباليها

وليس من باب المفاعلة بل من باب طارقت النعل وعاقبت اللص.
أنّى يؤفكون: كيف يصرفون عن الحق بعد وضوح الدليل على سبيل التعجب!. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}
{وَقَالَتِ اليهود} جملةٌ مبتدأةٌ سيقت لتقريرٍ ما من عدم إيمانِ أهلِ الكتابين بالله سبحانه وانتظامِهم بذلك في سلك المشركين {عُزَيْرٌ ابن الله} مبتدأٌ وخبرٌ وقرئ بغير تنوينٍ على أنه اسمٌ أعجميٌّ كعازَرَ وعزَارَ غيرُ منصرفٍ للعجمة والتعريف، وأما تعليلُه بالتقاء الساكنين أو بجعل الابن وصفًا على أن الخبرَ محذوفٌ فتعسّفٌ مستغنىً عنه. قيل: هو قولُ قدمائِهم ثم انقطع فحَكى الله تعالى ذلك عنهم، ولا عبرةَ بإنكار اليهودِ وقيل: قولُ بعضٍ ممن كان بالمدينة. عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه جاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ناسٌ منهم وهم سلامُ بنُ مِشْكَم ونعمانُ بنُ أوفى وشاسُ بنُ قيسٍ ومالكُ بنُ الصيف فقالوا ذلك وقيل: قاله فنحاصُ بنُ عازوراءَ وهو الذي قال: {إن الله فقيرٌ ونحن أغنياء} وسببُ هذا القولِ أن اليهودَ قتلوا الأنبياءَ بعد موسى عليه السلام فرفع الله تعالى عنهم التوراةَ ومحاها من قلوبهم، فخرج عزيرٌ وهو غلامٌ يَسيح في الأرض فأتاه جبريلُ عليه السلام فقال له: أين تذهب، قال: أطلبُ العلم فحفّظه التوراةَ فأملاها عليهم عن ظهر لسانه لا يخرِم حرفًا، فقالوا: ما جمع الله التوراةَ في صدره وهو غلامٌ إلا أنه ابنُه. قال الإمام الكلبي: لما قَتل بُختُ نَصَّرُ علماءَهم جميعًا وكان عزيرٌ إذ ذاك صغيرًا فاستصغره ولم يقتُلْه فلما رجع بنو إسرائيلَ إلى بيت المقدس وليس فيهم من يقرأ التوارةَ بعث الله تعالى عزيرًا ليجدد لهم التوراةَ ويكونَ آيةً بعد ما أماته مائةَ عامٍ، يقال إنه أتاه ملكٌ بإناء فيه ماءٌ فسقاه فمثلت في صدره فلما أتاهم فقال لهم: إني عزيرٌ كذّبوه فقالوا: إن كنت كما تزعُم فأمْلِ علينا التوراةَ ففعل فقالوا: إن الله تعالى لم يقذِف التوراةَ في قلب رجلٍ إلا لأنه ابنُه تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن اليهود أضاعوا التوارةَ وعمِلوا بغير الحقِ فأنساهم الله تعالى التوراةَ ونسخها من صدورهم ورفع التابوتَ فتضرع عزيرٌ إلى الله تعالى وابتهل إليه فعاد حفظُ التوراةِ إلى قلبه فأنذر قومه به ثم إن التابوت نزلَ فعرضوا ما تلاه عزيرٌ على ما فيه فوجدوه مثلَه فقالوا ما قالوا.
{وَقَالَتِ النصارى المسيح ابن الله} هو أيضًا قولٌ لبعضهم وإنما قالوه استحالةً لأن يكون ولدٌ بغير أبٍ أو لأن يفعَلَ ما فعله من إبراء الأكمهِ والأبرصِ وإحياءِ الموتى مَنْ لم يكن إلها {ذلك} إشارةٌ إلى ما صدر عنهم من العظيمتين، وما فيه معنى البُعد للدِلالة على بُعد درجةِ المشار إليه في الشناعة والفظاعة {قَوْلُهُم بأفواههم} إما تأكيدٌ لنسبة القولِ المذكورِ إليهم ونفي التجوّزِ عنها أو إشعارٌ بأنه قولٌ مجرد عن برهان وتحقيقٍ مماثل للمُهمل الموجودِ في الأفواه من غير أن يكون له مصِداقٌ في الخارج {يضاهئون} أي في الكفر والشناعةِ وقرئ بغير همز {قَوْلَ الذين كَفَرُواْ} أي يشابه قولُهم على حذف المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مُقامَه عند انقلابِه مرفوعًا قولَ الذين كفروا {مِن قَبْلُ} أي من قبلهم وهم المشركون الذين يقولون: الملائكةُ بناتُ الله أو اللاتُ والعزّى بناتُ الله لا قدماؤهم كما قيل إذا لا تعددَ في القول حتى يتأتّى التشبيهُ، وجعلُه بين قولي الفريقين مع اتحاد المقولِ ليس فيه مزيدُ مزيةٍ وقيل: الضميرُ للنصارى أي يضاهي قولُهم: المسيحُ ابنُ الله قولَ اليهودِ عزيزٌ إلخ لأنهم أقدمُ منهم وهو أيضًا كما ترى فإنه يستدعي اختصاصَ الردِّ والإبطالَ بقوله تعالى: {ذلك قَوْلُهُم بأفواههم} بقول النصارى: {قاتلهم الله} دعاءٌ عليهم جميعًا بالإهلاك فإن مَنْ قاتله الله هلك، أو تعجّبٌ من شناعة قولهم: {أنى يُؤْفَكُونَ} كيف يُصْرفون من الحق إلى الباطل والحالُ أنه لا سبيل إليه أصلًا. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}
{وَقَالَتِ اليهود} استئناف سيق لتقرير ما مر من عدم إيمان أهل الكتابين بالله سبحانه وانتظامهم بذلك في المشركين، والقائل: {عُزَيْرٌ ابن الله} متقدمو اليهود ونسبة الشيء القبيح إذا صدر من بعض القوم إلى الكل مما شاع، وسبب ذلك على ما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن عزيرًا كان في أهل الكتاب وكانت التوراة عندهم يعملون بها ما شاء الله تعالى أن يعملوا ثم أضاعوها وعملوا بغير الحق وكان التابوت عندهم.
فلما رأى الله سبحانه وتعالى أنهم قد أضاعوا التوراة وعملوا بالأهواء رفع عنهم التابوت وأنساهم التوراة ونسخها من صدورهم فدعا عزير ربه عز وجل وابتهل أن يرد إليه ما نسخ من صدره.
فبينما هو يصلي مبتهلًا إلى الله عز وجل نزل نور من الله تعالى فدخل جوفه فعاد الذي كان ذهب من جوفه من التوراة فأذن في قومه فقال: يا قوم قد آتاني الله تعالى التوراة وردها إلي فطفق يعلمهم فمكثوا ما شاء الله تعالى أن يمكثوا وهو يعلمهم.
ثم إن التابوت نزل عليهم بعد ذهابه منهم فعرضوا ما كان فيه على الذي كان عزير يعلمهم فوجدوه مثله فقالوا: والله ما أوتي عزير هذا إلا لأنه ابن الله سبحانه.
وقال الكلبي في سبب ذلك: إن بختنصر غزا بيت المقدس وظهر على بني إسرائيل وقتل من قرأ التوراة وكان عزير إذ ذاك صغيرًا فلم يقتله لصغره فلما رجع بنو إسرائيل إلى بيت المقدس وليس فيهم من يقرأ التوراة بعث الله تعالى عزيرًا ليجدد لهم التوراة وليكون آية لهم بعد ما أماته الله تعالى مائة سنة فأتاه ملك بإناء فيه ماء فشرب منه فمثلت له التوراة في صدره فلما أتاهم قال: أنا عزير فكذبوه وقالوا: إن كنت كما تزعم فأمل علينا التوراة فكتبها لهم من صدره.
فقال رجل منهم: إن أبى حدثني عن جدي أنه وضعت التوراة في خابية ودفنت في كرم فانطلقوا معه حتى أخرجوها فعارضوها بما كتب لهم عزير فلم يجدوه غادر حرفًا فقالوا: إن الله تعالى لم يقذف التوراة في قلب عزير إلا لأنه ابنه تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
وروي غير ذلك ومرجع الروايات إلى أن السبب حفظه عليه السلام للتوراة، وقيل: قائل ذلك جماعة من يهود المدينة منهم سلام بن مشكم ونعمان بن أبي أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف.
أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أن عزيرًا ابن الله؟.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أن قائل ذلك فنحاص بن عازوراء وهو على ما جاء في بعض الروايات القائل: {إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء} [آل عمران: 181].
وبالجملة أن هذا القول كان شائعًا فيهم ولا عبرة بإنكارهم له أصلًا ولا بقول بعضهم: إن الواقع قولنا عزير أبان الله أي أوضح أحكامه وبين دينه أو نحو ذلك بعد أن أخبر الله سبحانه وتعالى بما أخبر.
وقرأ عاصم والكسائي ويعقوب وسهل {عُزَيْرٌ} بالتنوين والباقون بتركه.
أما التنوين فعلى أنه اسم عربي مخبر عنه بابن.
وقال أبو عبيدة: إنه أعجمي لكنه صرف لخفته بالتصغير كنوح ولوط وإلى هذا ذهب الصغاني.
وهو مصغر عزار تصغير ترخيم، والقول بأنه أعجمي جاء على هيئة المصغر وليس به فيه نظر.
وأما حذف التنوين فقيل لالتقاء الساكنين فإن نون التنوين ساكنة والباء في ابن ساكنة أيضًا فالتقى الساكنان فحذفت النون له كما يحذف حروف العلة لذلك، وهو مبني على تشبيه النون بحرف اللين وإلا فكان القياس تحريكها، وهو مبتدأ وابن خبره أيضًا ولذا رسم في جميع المصاحف بالألف؛ وقيل: لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، وقيل: لأن الابن وصف والخبر محذوف مثل معبودنا.
وتعقب بأنه تمحل عنه مندوحة ورده الشيخ في دلائل الإعجاز بأن الاسم إذا وصف بصفة ثم أخبر عنه فمن كذبه انصرف تكذيبه إلى الخبر وصار ذلك الوصف مسلمًا، فلو كان المقصود بالإنكار قولهم عزير ابن الله معبودنا لتوجه الإنكار إلى كونه معبودًا لهم وحصل تسليم كونه ابنًا لله سبحانه وذلك كفر.